فصل: فصل في ذكر بعض أحوال أهل النار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في ذكر بعض أحوال أهل النار:

فتفكر يا أخي في حال هؤلاء الَّذِينَ قَدْ عريت من اللحم عظامهم فبقيت الأرواح منوطة بالعروق وعلائق العصب وهي تنش في لفح تلك النيران، وهم مَعَ ذَلِكَ يتمنون الموت فلا يموتون، فَكَيْفَ بك أيها العاصي لو نظرت إلى هؤلاء المجرمين وقَدْ اسودت وجوههم، وأعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم، وكسرت عظامهم، وجدعت آنافهم، وآذانهم، ومزقت جلودهم، وغلت أيديهم إلى أعناقهم وجمَعَ بين نواصيهم وأقدامهم، ولهيب النار سار في بواطنهم، وحيات جهنم وعقاربها متشبثة بظواهرهم.
ثُمَّ انظر في أودية جهنم وشعابها، فعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره». رواه أَحَمَد، والترمذي. إِلا أنه قال: «واد بين جبلين يهوي فيه الكافر سبعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره».
وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} قال: واد في جهنم يقذف فيه الَّذِينَ يتبعون الشهوات. رواه الطبراني، والبيهقي.
وعن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعوذوا بِاللهِ من جب الحزن أو وادي الحزن» قيل: يَا رَسُولَ اللهِ وما جب الحزن أو وادي الحزن؟ قال: «واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كُلّ يوم سبعين مرة أعده الله للقراء المرائين». رواه البيهقي بإسناد حسن.
ثُمَّ انظر يا أخي وتأمل في قعر جهنم وظلماتها وتفاوت دركاتها فعن خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غزوان ري الله عَنْهُ فَقَالَ: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عامًا ما يدرك لها قعرًا وَاللهِ لتملأنه أفعجبتم. رواه مسلم هكَذَا.
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كنا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعنا وجبة فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتدرون ما هَذَا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم قال: «هَذَا حجر أرسله الله في جهنم مُنْذُ سبعين خريفًا فالآن حين انتهى إلى قعرها». رواه مسلم.
وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أوقَدْ على النار ألف سنة حتى ابيضت، ثُمَّ أوقَدْ عَلَيْهَا ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» رواه مالك، والترمذي.
وعنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «نار ابن آدم التي يوقدون منها جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وإن كانَتْ لكافية، قال: «فإنها فضلت بتسعة وستين جزءًا». أخرجه مال، ومسلم وزَادَ: «كُلّهَا مثل حرها». وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم ولو لا أنها أطفئت بالماء مرتين ما انتفعتم بها وإنها لتدعوا الله أن لا يعيدها فيها». رواه ابن ماجة.
وروى الأئمة عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشتكت النار إلى ربها فقَالَتْ: رَبِّي أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نفسين: نفسًا في الشتاء، ونفسًا في الصيف، فشدة ما يجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما يجدون من الحر من سمومها». أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.
اللَّهُمَّ ثبتنا عِنْد نزول غمرات هادم اللذات، وخفف عنا شدة كرب السياق، وغصص السكرات، الله وآنس وحشتنا في القبر الضيق العطن، ولقنا جواب الملك الموكل بالفتن وارحمنا عِنْد مضاجعة التُّرَاب والديدان ومفارقة الأَهْل والإِخْوَان، وأمنا عِنْد طلوع هول المطلع الفظيع وبلوغ صوت المنادي إلى أذن كُلّ سميع، وثَبِّتْ قلوبنا عِنْد تقلب القُلُوب إذا مد الصراط على النيران وتطاير العقول إذا نصب الميزان ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يا ذا الفضل العميم بمنك وجود يا كريم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
ثُمَّ تفكر بقلبك، وألق السمَعَ لقوله تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} الآيَة وقوله عَزَّ من قائل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ}، وقوله تَعَالَى: {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، وقوله تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أليس هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الآيتين.
روى الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يلقى البُكَاء على أَهْل النار، فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثُمَّ يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كيهئة الأخدود، ولو أرسلت فيه السفن لجرت». خرجه ابن ماجة، وروى سلام بن مسكين عن قتادة عن أبي بردة بن أبي مُوَسى عن أبيه قال: إن أَهْل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت، ثُمَّ إنهم ليبكون بالدم بعد الدموع، ولمثل ما هم فيه فليبك. وَقَالَ صالح المري: بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فلا يبقى مِنْهُمْ إِلا كهيئة الأنين من المدنف.
وروى الوليد بن مسلم عن أبي سلمة الدوسي- واسمه ثابت بن شريح- عن سالم بن عَبْد اللهِ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ يدعو: «اللَّهُمَّ ارزقني عينين هطالتين يشفيان الْقَلْب بذروف الدموع من خشيتك، قبل أن يكون الدمَعَ دمًا، والأضراس جمرًا». سالم بن عَبْد اللهِ هُوَ المحارَبِّي، وحديثه مرسل. وروى الوليد بن مسلم أيضًا عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله قال: إن داود عَلَيْهِ السَّلام قال: رب ارزقني عينين هطالتين يبكيان بذروف الدموع ويشفيان من خشيتك، قبل أن يعود الدمَعَ دمًا، والأضراس جمرًا، قال وكَانَ داود عَلَيْهِ السَّلام يعاتب في كثرة البُكَاء، فَيَقُولُ: دعوني أبكي قبل يوم البُكَاء، قبل تحرق العظام، واشتعال اللحى،، وقبل أن يؤمر بي {مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وروى يونس بن ميسرة عن أبي إدريس الخولاني قال: إن داود عَلَيْهِ السَّلام قال: أبكي نفسي قبل يوم البُكَاء، أبكي نفسي قبل أن لا ينفع البُكَاء، ثُمَّ دعا بجمر فوضع يده عَلَيْهِ، حتى إذا حره رفعها، وَقَالَ: أَوَّهْ لعذاب الله، أَوَّهْ أَوَّهْ قبل أن لا ينفع أَوَّهْ.
وروى ثابت البناني عن صفوان بن محرز قال: كَانَ لداود عَلَيْهِ السَّلام يومًا يتأوه فيه، يَقُولُ: أَوَّهْ أَوَّهْ من عذاب الله عَزَّ وَجَلَّ قبل أن لا ينفع أَوَّهْ، قال: فذكره صفوان ذات يوم في مجلس فَبَكَى حتى غلبه البُكَاء فقام. وَقَالَ عَبْد اللهِ بن رباح الأنصاري: سمعت كعبًا يَقُولُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} قال: كَانَ إذا ذكر النار قال: أَوَّهْ من النار، أَوَّهْ من النار. والتأوه هُوَ التوجع والتحزن. قال المثقف العبدي:
إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ** تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِين

وفي حديث الأعمش عن شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء في ذكر أَهْل النار قال: «فيقولون ادعوا خزنة جهنم، فيقولون: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} قال: فيقولون: ادعوا مالكًا، فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} قال الأعمش: نبئت أن بين دعاءهم وبين إجابة مالك لَهُمْ ألف عام، قال: فيقولون: ادعوا ربكم فإنه لَيْسَ أحد خيرًا من ربكم فيقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} قال: فيجيبهم: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}، قال: فعِنْد ذَلِكَ يئسوا من كُلّ خَيْر، وعِنْد ذَلِكَ يأخذون في الحَسْرَة والزفير والويل». خرجه الترمذي مرفوعًا، وموقوفًا على أبي الدرداء.
وروى أبو معشر عن مُحَمَّد بن كعب القرظي قال: لأَهْل النار خمس دعوات، يكلمون في أربع منها، ويسكت عنهم في الخامسة فلا يكلمون، يقولون: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} فيرد عَلَيْهمْ: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} فيرد عَلَيْهمْ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى آخر الآيتين، ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيرد عَلَيْهمْ: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فيرد عَلَيْهمْ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيرد عَلَيْهمْ: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} إلى قوله: {وَكُنتُم مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} قال: فلا يتكلمون بعد ذَلِكَ. أخرجه آدم بن أبي إياس وابْن أَبِي حَاتِم.
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
فَيَا سَاهِيًا فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى ** صَرِيعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ

أَفِقْ قَدْ دَنَى الْوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ ** سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرِّ نَارٍ تَضَرَّمُ

وَبِالسُّنَّةِ الْغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا ** هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ

تَمَسَّكْ بِهَا مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمَاله ** وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمِ

وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا ** فَمَرْتَعُ هَاتِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ

وَهَيِّءْ جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا ** مِنَ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ

بِهِ رُسُلِي لِمَا أَتَوْكُمْ فَمَنْ يَكُنْ ** أَجَابَ سِوَاهُمْ سَوْفَ يُخْزَى وَيَنْدَمُ

وَخُذْ مِنْ تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ ** لِيَوْمٍ بِهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ

وَيُنْصَبُ ذَاكَ الْجَسْرُ مِنْ فَوْق مَتْنِهَا ** فَهَاوٍٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ

وَيَأْتِي إلهُ الْعَالَمِينَ لِوَعْدِهِ ** فَيَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَحْكُمُ

وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقَّهُ ** فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ

وَيُنْشَرُ دِيوَانُ الْحِسَابِ وَتُوضَعُ الْـ ** ـمَوَازِينُ بِالْقِسْطِ الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ

فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلامَةَ ذَرَّةٍ ** وَلا مُحْسِنٌ مِنْ أَجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ

وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيء بِمَا جَنَى ** كَذَاكَ عَلَى فِيهِ الْمُهَيْمِنُ يَخْتُمُ

فَيَالَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالِكُ عِنْدَمَا ** تَطَايَرُ كُتُبُ الْعَالَمِينَ وَتُقْسَمُ

أَتَأْخُذُ بِالْيُمْنَى كِتَابَكَ أَمْ تَكُنْ ** بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ

وَتَقْرَأُ فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْتَهُ ** فَيُشْرِقُ مِنْكَ الْوَجْهُ أَوْ هُوَ يُظْلِمُ

تَقُولُ كِتَابِي فَاقْرَؤُهُ فَإِنَّهُ ** يُبَشِّرُ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَيُعْلِمُ

وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قَائِلٌ ** أَلا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَهُ فَهُوَ مَغْرَمُ

فَبَادِرْ إِذَا مَا دَامَ فِي الْعُمْرِ فُسْحَةٌ ** وَعَدْلُكَ مَقْبُولٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ

وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا ** فَفِي زَمَنِ الإِمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ

وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ** وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النَّعِيم يا حليم ويا كريم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
في الثناء على أَهْل الْجَنَّة وتبشيرهم، وتبكيت أَهْل النار، وتقريعهم على إهمالهم وتفريطهم.
روى صفوان بن عمرو قال: سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يَقُولُ: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دخل أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة، وأَهْل النار النار، قال الله: يا أَهْل الحنة: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال: نعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثُمَّ يَقُولُ لأَهْل النار: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فَيَقُولُ: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم سخطي ومعصيتي وناري، امكثوا فيها خالدين مخلدين، فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنََّا ظَالِمُونَ} فَيَقُولُ: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فيكون ذَلِكَ آخر عهدهم بكلام ربهم عَزَّ وَجَلَّ». خرجه أبو نعيم، وَقَالَ: كَذَا رواه أيفع مرسلاً.
وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ النَّاسِ يَومَ القِيَامةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ». أخرجه مسلم، وأخرجه ابن ماجة أيضًا عن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤتى يوم القيامة بأنعم أَهْل الدُّنْيَا من الكفار، فَيُقَالُ: اغمسوه في النار غمسة فيغمس فيها ثُمَّ يخَرَجَ، فَيُقَالُ: أي فلان هل أصابك نعيم قط؟ فَيَقُولُ: ما أصابني نعيم قط، ويؤتى بأشد الْمُؤْمِنِين ضررًا وبَلاء، فَيُقَالُ: اغمسوه في الْجَنَّة غمسة، فيغمس فيها غمسة، فَيُقَالُ له: أي فلان هل أصابك ضر وبَلاء فَيَقُولُ: لا ما أصابني ضر قط ولا بَلاء».
قال ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: وأعظم أَهْل النار حجابهم عن الله عَزَّ وَجَلَّ وإبعادهم عَنْهُ، وإعراضه عنهم، وسخطه عَلَيْهمْ كما أن رضوان الله على أَهْل الْجَنَّة أفضل من كُلّ نعيم الْجَنَّة وتجليه لَهُمْ ورؤيتهم إياه، أعظم مِنْ جَمِيعِ أنواع نعيم الْجَنَّة، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} فذكر تَعَالَى لَهُمْ ثلاثة أنواع من الْعَذَاب: حجابهم عَنْهُ، ثُمَّ صليهم الجحيم، ثُمَّ توبيخهم بتكذيبهم به في الدُّنْيَا، ووصفهم بالران على قُلُوبهمْ، وَهُوَ صدأ الذُّنُوب الَّذِي اسودت به قُلُوبهمْ، فلم يصل إليها بعد ذَلِكَ في الدُّنْيَا شَيْء من معرفة الله، ولا من إجلاله ومهابته، وخشيته ومحبته، فكما حجبت قُلُوبهمْ في الدُّنْيَا عن الله حجبوا في الآخِرَة عن رؤيته، وهَذَا بخلاف حال أَهْل الْجَنَّة، قال تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} والَّذِينَ أحسنوا هم أَهْل الإحسان والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، كما فسره النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله عَنْهُ جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فجعل جزاء الإحسان الحسنى- وَهُوَ الْجَنَّة- والزيادة- وهي النظر إلى وجه الله عَزَّ وَجَلَّ- كما فسره بذَلِكَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث صهيب وغيره. انتهى.
اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين اللهم يا مقلب القُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
أَوَ مَا سَمِعْتَ مُنَادِي الإِيمَانِ ** يُخْبِرُ عَنْ مُنَادِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ

يَا أَهْلَهَا لَكُمُ لَدَى الرَّحْمَنُ وَعْـ ** ـدُ هُوَ مُنْجِزُهُ لَكُمْ بِضَمَانِ

قَالُوا أَمَا بَيَّضْتَ أَوْجُهَنَا كَذَا ** أَعْمَالَنَا ثَقَّلْتَ فِي الْمِيزَانِ

وَكَذَاكَ قَدْ أَدْخَلْتَنَا الْجَنَّاتِ حِيـ ** ـنَ أَجَرْتَنَا مِنْ مَدْخَلِ النِّيرَانِ

فَيَقُولُ عِنْدِي مَوْعِدٌ قَدْ آنَ أَنْ ** أُعْطِيكُمُوهُ بِرَحْمَتِي وَحَنَانِي

فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعْدِ كَشْفِ حِجَابِهِ ** جَهْرًا رَوَى ذَا مُسْلِم بِبَيَانِ

وَلَقَدْ أَتَانَا فِي الصَّحِيحَيْنِ اللَّذَيْ ** نِ هُمَا أَصَحُّ الْكُتُبِ بَعْدَ قُرْآنِ

بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ جَرِيرٍ الْـ ** ـبجَلِيِّ عَمَّنْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ

أَنَّ الْعِبَادَ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ ** رُؤْيَا الْعِيَانَ كَمَا يُرَى الْقَمَرَانِ

فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ كُلَّ وَقْتٍ فَاحْفَظُوا الْـ ** ـبَرْدَيْنِ مَا عِشْتُمْ مَدَى الأَزْمَان

وَلَقَدْ رَوَى بِضْعٌ وَعِشْرُونَ امْرُوءٌ ** مِنْ صَحْبِ أَحْمَدِ خَيْرَةِ الرَّحْمَنِ

أَخْبَارَ هَذَا الْبَابِ عَمَّنْ قَدْ أَتَى ** بِالْوَحْيِ تَفْصِيلاً بِلا كِتْمَانِ

وَأَلَذُّ شَيْءٍ لِلْقُلُوبِ فَهِذِهِ الْـ ** أَخْبَارُ مَعَ أَمْثَالِهَا هِيَ بَهْجَةُ الإِيمَانِ

وَاللهِ لَوْلا رُؤْيَةُ الرَّحْمَنِ فِي الْـ ** جَنَّاتٍ مَا طَابَت لِذِي الْعِرْفَانِ

أَعْلَى النَّعِيمِ نَعِيمُ رُؤْيَةِ وَجْهِهِ ** وَخِطَابُه فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ

وَأَشَدُّ شَيْءٍ فِي الْعَذَابِ حِجَابُهُ ** سُبْحَانَهُ عَنْ سَاكِنِي النِّيرَانِ

وَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ نَسُوا الَّذِي ** هُمْ فِيهِ مِمَّا نَالَتِ الْعَيْنَانِ

فَإِذَا تَوَارَى عَنْهُمْ عَادُوا إِلَى ** لَذَّاتِهِمْ مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ

فَلَهُمْ نَعِيمٌ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ سِوَى ** هَذَا النَّعِيمِ فَحَبَذَا الأَمْرَانِ

أَوَ مَا سَمِعْتَ سُؤَالَ أَعْرفِ خَلْقِهِ ** بِجَلالِهِ الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآن

شَوْقًا إليه وَلَذَّةِ النَّظَرِ الَّذِي ** بِجَلالِ وَجْهِ الرَّبِّ ذِي السُّلْطَانِ

فَالشَّوْقُ لَذَّةٌ رُوُحه فِي هَذِهِ الدُّ ** نْيَا وَيَوْمَ قِيَامَةِ الأَبْدَانِ

تَلْتَذُّ بِالنَّظَرِ الَّذِي فَازَتْ بِهِ ** دُونَ الْجَوَارِحِ هَذِهِ الْعَيْنَانِ

وَاللهِ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَلَـ ** ـذُّ مِنْ اشْتِيَاقِ الْعَبْدِ لِلرَّحْمَنِ

وَكَذَاكَ رُؤْيَةُ وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ ** هِيَ أَكْمَلُ اللَّذَاتِ لِلإِنْسَان

اللَّهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللَّهُمَّ إن كنا مقصرين في حفظ حقك والوفاء بعهدك فأَنْتَ تعلم صدقنا في رجَاءَ رفاك، وخالص ودك، اللَّهُمَّ أَنْتَ أعلم بنا منا فبكمال جودك تجاوز عنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ اجعلنا لكتابك من التالين ولك به من العاملين وبما صرفت فيه من الآيات منتفعين، وإلى لذيذ خطابه مستمعين، ولأوامره ونواهيه خاضعين وبالأعمال مخلصين، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.